كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واختلفوا في العمد، واختلافهم فيه مشهور، وأجرى القولين على القياس عندي قول من قال: لا كفارة في العمد، لأن العمد في القتل أعظم من أن يكفره العتق. لقوله تعالى في القاتل عمدًا: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] فهذا الأمر أعلى وأفخم م أن يكفر بعتق رقبة. والعلم عند الله تعالى.
والدية لا تحملها العاقلة إن كان القتل خطأ ثابتًا بإقرار الجاني ولم يصدقوه، بل إنما تحملها إن ثبت القتل ببينة، كما ذهب إلى هذا عامة أهل العلم، منهم ابن عباس، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والزهري، وسليمان بن موسى، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق. وبه قال الشافعي، وأحمد، ومالك، وأبو حنيفة وغيرهم. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس: جمهور العلماء على أن دية المرأة الحرة المسلمة نصف دية الرجل الحر المسلم على ما بينا.
قال ابن المنذر، وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل. وحكى غيرهما عن ابن عليه والأصم أنهما قالا: ديتها كدية الرجل. وهذا قول شاذ، مخالف لإجماع الصحابة كما قاله صاحب المغني.
وجراح المراة تساوي جراح الرجل إلى ثلث الدية، فإن بلغت الثلث فعلى النصف. قال ابن قدامة في المغني: وروي هذا عن عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت. وبه قال سعيد بن المسيب. وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير، والزهري وقتادة، والأعرج، وربيعة، ومالك.
قال ابن عبد البرك هو قول فقهاء المدينة السبعة. وجمهور أهلا مدينة وحكي عن الشافعي في القديم.
وقال الحسن: يستويان إلى النصف. وروي عن علي رضي الله عنه: أنه على النصف فيما قل أو أكثر. وروي ذلك عن ابن سرين. وبه قال الثوري، والليث، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه. وأبو الثور، والشافعي في ظاهر مذهبه، واختاره ابن المنذر. لأنهم شخصان تختلف ديتهما فاختلف ارش أرافهما. اهـ وهذا قول أقيس.
قال مقيده عفا الله عنه: كلام ابن قدامة والخرقي صريح في أن ما بلغ ثلث الدية يستويان فيهن وا، تفضيله عليها بنصف الدية إنما هو فيما زاد على الثلث.
فمقتضى كلامهما أن دية جائفة المرأة ومأمومتها كدية جائفة الرجل ومأمومته. لأن في كل من الجائفة والمأمومة ثلث الدية، وأن عقلها لا يكون على النصف من علقه إلا فيما زاد على الثلث، كديه أربعة أصابع من اليد، فإن فيها أربعين من الإبل، إذ في كل إصبع عشر، والأربعون أكثر من ثلث المائة. وكلام مالك في الموطأ وغيره صريح في أن ما بلغ الثلث كالجائفة والمأمومة تكون دية المرأة فيه على النصف من دية الرجل، وأن محل استوائها إنما هو فيما دون الثلث خاصة كالموضحة والمنقلة، والإصبع والإصبعين والثلاثة. وهما قولا معروفان لأهل العلم. وأصحهما هو ما ذكرناه عن مالك، ورجحه ابن قدامه في آخر كلامه بالحديث الآتي إن شاء الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول مشكل جدًا لأنه يقتضي ان المرأة إن قطعت من يدها ثلاثة أصابع كان ديتها ثلاثين من الإبل كأصبع الرجل لأنها دون الثلث. وإن قطعت من يدها أربعة أصابع كانت ديتها عشرين من الإبل، لأنها زادت على الثلث فصارت على النصف من دية الرجل. وكون دية الأصابع الثلاثة ثلاثين من الإبل، ودية الأصابع الأربعة عشرين في غاية الإشكال كما ترى.
وقد استشكل هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، على سعيد بن المسيب، فأجابه بأه هذا هو السنة. ففي موطأ مالك رحمه الله عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: سألت سعيد بن المسيب كم في إصبع المرأةظ قال: عشر من الإبل. فقلت: كم في إصبعين؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت كم في ثلاث؟ فقال: ثلاثون من الإبل. فقلت: كم في أربع؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبته نقص عقلها؟ فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقلت. بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم. فقال سعيد: هي السنة يا بن أخي!
وظاهر كلام سعيد هذا: أن هذا من سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم. ولو قلنا: أن هذا له حكم الرفع فإنه مرسل، لأن سعيدًا لم يدرك زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم. ومراسيل بن المسيب قد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة: الأنعام مع أن بعض أهل العلم قال: إن مراده بالسنة هنا سنة أهل المدينة.
وقال النسائي رحمه الله في سننه: أخبرنا عيسى بن يونس قال: حدثنا حمزة، عن إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها». اهـ. وهذا يعضد قول سعيد.
إن هذا هو السنة.
قال مقيده عفا الله عنه: إسناد النسائي هذا ضعيف فيما يظهر من جهتين.
إحداهما- أن اسماعيل بن عياش رواه عن ابن جريج، ورواية إسماعيل المذكور عن غير الشاميين ضعيفة كما قدمنا إيضاحه. وابن جريج ليس بشامين بل هو حجازي مكي.
الثانية- أن ابن جريج عنهنه عن عمر بن شعيب، وابن جريج رحمه الله مدلس، وعنعنة المدلس لا يحتج بها ما لم يثبت السماع من طريق أخرى كما تقرر في علوم الحديث. ويؤيد هذا الإعلال ما قاله الترمذي رحمه الله: من أن محمد بن إسماعيل يعني البخاري قال. إن ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب، كما نقله عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة ابن جريج المذكور.
وبما ذكرنا تعلم أن تصحيح ابن خزيمة لهذا الحديث غير صحيح. وإن نقله عنه ابن حجر في بلوغ المرام وسكت عليه. والله أعلم. وهذا مع ما تقدم من كون ما تضمنه هذا الحديث يلزمه أن يكن في ثلاثة اصابع من أصابع المرأة ثلاثون، وفي أربعة اصابع عشرون. وهذا مخالف لما عهد من حكمة هذا الشرع الكريم كما ترى. اللهم إلا أن يقال: إن جعل المرأة على النصف من الرجل فيما بلغ الثالث فصاعدًا أنه في الزائد فقط. فيكون في أربعة أصابع من أصابعها خمس وثلاثون، فيكون النقص في العشرة الرابعة فقط. وهذا معقول وظاهر، والحديث محتمل له، والله أعلم.
ومن الأدلة على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل- ما رواه البيهقس في السنن الكبرى من وجهين عن عبادة بن نُيِي، عن ابن غنم، عن معاذ بن جبل قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دية المرأة على النصف من دية الرجل» ثم قال البيهقي رحمه اله: وروي من وجه آر عن عبادة بن نسي وفيه ضعف. ومعلوم أن عبادة بن نُسَي ثقة فاضل. فالضعف الذي يعنيه البيهقي من غيره. وأخرج البيهقي أيضًا عن علي مرفوعًا «دية المرأة على النصف من دية الرجل في الكل» وهو من رواية إبراهيم النخعي عنه وفيه انقطاع. وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه، وأخرجه أيضًا من وجه آخر عنه وعن عمر- قاله الشوكاني رحمه الله.
الفرع السادس: اعلم أن أصح الأقوال وأظهرها دليلًا: أن دية الكافر الذمي على النصف من دية المسلم. كما قدمنا عن أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن دية أهل الكتاب كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف من دية المسلمين، وأن عمر لم يرفعها فيما رفع عند تقويمه الدية لما غلت الإبل.
وقال أبو داود أيضًا في سننه: حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي، ثنا هيسر بن يونس، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «دية المعاهد نصف دية الحر» قال أبو داود: ورواه أسمامة بن زيد الليثي، وعبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب مثله. اهـ.
وقال النسائي في سنه: أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى..- وذكر كلمة معناها- عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى» أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح قالك أنبأنا ابن وهب قال: أخبرني اسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عقل الكافر نصف عقل المؤمن».
وقال ابن ماجه رحمه الله في سننه: حدثنا هشان بن عمار، ثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن عياش، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين، وهم اليهود والنصارى». وأخرج نحوه الإمام أحمد، والترمذي، عن عمرو عن أبيه عن جده.
قال الشوكاني في نيل الأوطار: وحديث عمرو بن شعيب هذا حسن الترمذي، وصححه ابنالجارود. وبهذا تعلم أن هذا القول أولى من قول من قال: دية أهل لذمة كدية المسلمين. كابي حنيفة ومن وافقه. ومن قال: إنا قدر ثلث دية المسلم. كالشافعي ومن وافقه. والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن الروايات التي جاءت بأن دية الذمي والمعاهد كدية المسلم ضعيفة لايحتج بها. وقد بين البيهقي رحمه الله تعالى ضعفها في السنن الكبرى وقد حاول ابن التركماني رحمه الله في حاشيته على سنن البيهقي أن يجعل تلك الروايات صالحة للاحتجاج، وهي ليس فيها شيء صحيح.
أما الاستدلال بظاهر قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فيقال فيه: هذه دلالة اقتران، وهي غير معتبرة عند الجمهور. وغاية ما في الباب: أن الآية لم تبين قدر دية المسلم ولا الكافر، والسنة بينت أن دية الكافر على النصف من دية المسلم. وهذا لا إشكال فيه.
أما استواؤهما في قدر الكفارة فلا دليل فيه على الدية. لأنها مسألة أخرى.
والأدلة التي ذكرنا دلالتها أنها على النصف من دية المسلم أقوى، ويؤيدهاك أن في الكتاب الذي كتبه النَّبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل» فمفهوم قوله: «المؤمنة» أن النفس الكافرة ليست كذلك. على أن المخالف في هذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله، والمقرر في أصول: أنه لا يعتبر دليل الخطاب أعني مفهوم المخالفة كما معلوم عنه. ولا يقول بحمل المطلق على المقيد. فيستدل بإطلاق النفس عن قيد الإيمان في الأدلة الأخرى على شمولها للكافر. والقول بالفرق بين الكافر المقتول عمدًا فتكون ديته كدية المسلم، وبين المقتول خطأ فتكون على النصف من دية المسلم- لا نعلم له مستندًا من كتاب ولا سنة. والعلم عند الله تعالى.
وأما دية المجوسي- فأكثر أهل العلم على أنها ثلث خمس دية المسلم. فهي ثمانمائة درهم. ونساؤهم على النصف من ذلك.
وهذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأكثر أهل العلم. منهم عمر وعثمان، وابن مسعود رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وإسحاق.
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ديته نصف دية المسلم كدية الكتابي.
وال التخعي، والشعبي: ديته كدية المسلم. وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
والاستدلال على أن دية المجوسي كدية الكتابي بحديث: «سنُّوا بهم سنَّة أهل الكتاب» لا يتجه. لأنا لو فرضنا صلاحية الحديث للاحتجاج، فالمراد به أخذ الجزية منهم فقط. بدليل أن نساءهم لا تحل، وذبائحهم لا تؤكل. اهـ.
وقال ابن قدامة في المغني: إن قول من ذكرنا من الصحابة: إن دية المجوسي ثلث خمس دية المسلم، لم يخالفهم فيه أحد من الصحابة فصار إجماعًا سكوتيًا. وقد قدمنا قول من قال: إنه حجة.
وقال بعض أهل العلم: دية المرتد إن قتل قبل الاستتابة كدية المجوسي. وهو مذهب مالك. وأما الحربيون فلا دية لهم مطلقًا. والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع: اعلم أن العلماء اختلفوا في موجب التغليظ في الدية. وبم تغلظ. فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها تغلظ بثلاثة أشياء: وهي القتل في الحرم، وكون المقتول محرمًا بحج أو عمرة، أو في الأشهر الحرم. فتغلظ الدية في كل واحد منها بزيادة ثلثها.
فمن قتل محرمًا فعليه دية وثلث. ومن قتل محرمًا في الحرم فدية وثلثان. ومن قتل محرمًا في الحرم في الشهر الحرام فديتان.
وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله. وروي نحو عن عمر، وعثمان، وابن عباس رضي الله عنهم. نقله عنهم البيهقي وغيره.
وممن روى عنه هذا القولك سعيد بن المسيب، وسعبد بن جبير، وعطاء، وطاوس، والشعبي، ومجاهد، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد. وقتادة، والأوزاعي، وإسحاق، وغيرهم. كما نقله عنهم صاحب المغني.
وقال أصحاب الشافعي رحمه الله: تغلظ الدية بالحرم، والأشهر الحرم، وذي الرحم المحرم، وفي تغليظها بالإحرام عنهم وجهان.
وصفة التغليظ عند الشافعي: هي أن تجعل دية العمد في الخطأ. ولأا تغلظ الدية عند مالك رحمه الله في قتل الوالد ولده قتلًا شبه عمد. كما فعل المدلجي بأبيه. والجد والأم عنده كالأب.
وتغليظها عنده: هو تثليثها بكونها ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة في بطونها أولادها، لا يبالي من أي الأسنان كانت. ولا يرث الأب عنده في هذه الصورة من دية الولد ولا من ماله شيئًا.
وظاهر الأدلة أن القتل لا يرث مطلقًا من دية ولا غيرها، سواء كان القتل عمدًا أو خطأ. وفرق المالكيو في الخطأ بين الدية وغيرها. فمنعوا ميراثه من الدية دون غيرها من مال التركة. والإطلاق أظهر من هذا التفصيل، والله أعلم.
وقصة المدلجي: هي ما رواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن شعيب: ان رجلًا من بني مدلج يقال له قتادة حذف ابنه بالسيف. فأصاب ساقه فنزى في جرحه فمات. فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له. قال له عمر: أعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك. فلما قدم إليه عمر بن الخطاب أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، وقال: أين أخو المقتول؟ قال: ها أنذا. قال: خذها. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس لقاتل شيء».